الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وإذا علم ما دل عليه الشرع مع العقل واتفاق السلف مــن أن بعض القرآن أفضل من بعض، وكذلك بعض صفاته أفضل من بعض ـ بقي الكلام في كون وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في هذا الحديث ثلاثة أوجه: بدأ بهذا الوجه، فروي قول ابن سريج ـ هذا ـ بإسناده عن زاهد، عن الصابوني والبيهقي، عن الحاكم ـ أبي عبد الله الحافظ ـ قال: سمعت أبا الوليد/ ـ حسان بن محمد ـ الفقيه يقول: سألت أبا العباس ابن سريج قلت: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)، قال: إن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: فثلث أحكام، وثلث وعد ووعيد، وثلث أسماء وصفات. وقد جمع في الوجه الثاني ـ من الوجوه الثلاثة التي ذكرها أبو الفرج ابن الجوزي: أن معرفة الله هي معرفة ذاته، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة أفعاله، فهذه السورة تشتمل على معرفة ذاته؛ إذ لايوجد شيء إلا وجد من شيء ما خلا الله، فإنه ليس له كفء ولا له مثل. قال أبو الفرج: ذكره بعض فقهاء السلف. قال: والوجه الثالث: أن المعنى: من عمل ما تضمنته من الإقرار بالتوحيد والإذعان للخالق، كان كمن قرأ ثلث القرآن ولميعمل بما تضمنته، ذكره ابن عقيل. قال ابن عقيل: ولايجوز أن يكون المعنى: من قرأها فله أجر ثلث القرآن؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات). قلت: كلا الوجهين ضعيف. أما الأول؛ فيدل على ضعفه وجوه: الأول: أن نقول: القرآن ليس/كله هو المعرفة المذكورة، بل فيه أمر بالأعمال الواجبة ونهي عن المحرمات، والمطلوب من العباد المعرفة الواجبة والعمل الواجب، والأمة كلها متفقة على وجوب الأعمال التي فرضها الله، لميقل أحد بأنها ليست من الواجبات، وإن كان طائفة من الناس نازعوا في كون الأعمال من الإيمان، فلمينازعوا في أن الله فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرم الفواحش الثاني: أن يقال: قول القائل: معرفة ذاته ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة أفعاله إن أراد بذلك أن ذاته تعرف بدون معرفة شيء من أسمائه وصفاته الثبوتية والسلبية، فهذا ممتنع، ولو قدر إمكان ذلك أو فرض العبد في نفسه ذاتًا مجردة عن جميع القيود السلبية والثبوتية، فليس ذاك معرفته بالله البتة، ولا هو رب العالمين ذات مجردة عن كل أمر سلبي أو ثبوتي؛ ولهذا لميقل أحد من العقلاء هذا إلا القرامطة الباطنية، يقولون: يسلب عنه كل أمر ثبوتي وعدمي، فلايقال: موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا ليس بعالم، ولا قادر ولا ليس بقادر، ولا نحو ذلك. وهؤلاء مع أن قولهم معلوم الفساد بضرورة العقل، فإنهم /متناقضون، أما الأول؛ فلأن سلب النقيضين ممتنع كما أن جمعهما ممتنع، فيمتنع أن يكون شيء من الأشياء لا موجودًا ولا معدومًا، وأما تناقضهم لابد أن يذكروا ما ذكروا أنه يسلب عنه النقيضان ببعض الأمور التي يتميز بها ليخبر عنه بهذا السلب، وأي شيء قالوه، فلابد أن يتضمن نفيا أو إثباتًا، بل لابد أنيتضمن إثباتًا، وقد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع. ولهذا كان كثير من الملاحدة لايصلون إلى هذا الحد، بل يقولون كما قال أبو يعقوب السجستاني وغيره من الملاحدة: نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول: هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. فيقال لهم: إعراض قلوبكم عن العلم به، وكف ألسنتكم عن ذكره لايوجب أن يكون هو في نفسه مـجردًا عن النقيضين، بليفيد هذا كفركم بالله وكراهتكم لمعرفته وذكره وعبادته، وهذا حقيقة مذهبكم. ومن قال من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق ـ كابن سبعين والصدر القُونَوي وغيرهما: إنه وجود مطلق بشرط الإطلاق عن كل وصف ثبوتي وسلبي فهو من جنس هؤلاء، لكن هؤلاءيقولون: هو وجود مطلق، فيخصونه بالوجود دون العدم. ثميقولون: هو مطلق، والمطلق بشرط الإطلاق عن كل قيد سلبي وثبوتي إنمايكون في/ الأذهان لا في الأعيان. وهؤلاء يقولون: الوجود الكلي المقسوم إلى واجب وممكن الذي يجعله الفلاسفة موضوع العلم الإلهي ويسمونه [الحكمة العليا] و[الفلسفة الأولى] إنمايكون كليا في الأذهان لا في الأعيان، فليس في الخارج قط وجود هو بعينه واجب وهو بعينه ممكن، ولا وجود هو نفسه يتصف به الواجب وهو نفسهيتصف به الممكن، بل صفة الواجب تختص به، وصفة الممكن تختص به، ووجود الواجب يخصه لايشركه فيه غيره، ووجود الممكن يخصه لايشركه فيه غيره. ولهذا كان كل ما وصف به الرب نفسه من صفاته، فهي صفات مختصة به يمتنع أن يكون له فيها مشارك أو مماثل، فإن ذاته المقدسة لا تماثل شيئًا من الذوات، وصفاته مختصة به، فلا تماثل شيئًا من الصفات، بل هو سبحانه أحد صمد، لميلد ولميولد، ولميكن له كفوًا أحد، فاسمه [الأحد] دل على نفي المشاركة والمماثلة، واسمه [الصمد] دل على أنه مستحق لجميع صفات الكمال، كما بسط الكلام على ذلك في الشرح الكبير المصنف في تفسير هذه السورة. وصفات التنزيه كلها ـ بل وصفات الإثبات ـ يجمعها هذان المعنيان. وقد بسط الكلام في التوحيد وأنه نوعان: علمي قولي، وعملي قصدي. فــ والمقصود هنا أن صفات التنزيه يجمعها هذان المعنيان المذكوران في هذه السورة: أحدهما: نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسمه الصمد. والثاني: أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة، وهذا من مدلول اسمه الأحد: فهذان الاسمان العظيمان ـ الأحد الصمد ـ يتضمنان تنزيهه عن كل نقص وعيب، وتنزيهه في صفات الكمال ألا يكون له مماثل في شيء منها. واسمه الصمد يتضمن إثبات جميع /صفات الكمال، فتضمن ذلك إثبات جميع صفات الكمال ونفي جميع صفات النقص، فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله، وتضمنت ـ أيضًا ـ كل ما يجب إثباته من وجهين: من اسمه الصمد، ومن جهة أن ما نفي عنه من الأصول والفروع والنظراء مستلزم ثبوت صفات الكمال أيضًا، فإن كل مايمدح به الرب من النفي؛ فلابد أن يتضمن ثبوتًا، بل وكذلك كل مايمدح به شيء من الموجودات من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتًا، وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون صفة كمال. وهذا كما يذكره ـ سبحانه ـ في آية الكرسي مثل قوله: وكذلك قوله: ثم قال: والمقصود هنا الكلام على معنى كون: الوجه الثالث الذي يدل على فساد القول الثاني أن يقال: قول القائل: [معرفة أفعاله]، إن أراد بذلك معرفة آياته الدالة عليه، فهذه من تمام معرفته، ويبقي معرفة وعده ووعيده، وقصص الأمم المؤمنة والكافرة لميذكره، وهو القسم الثاني من أقسام معاني القرآن، كما لميذكر أمره ونهيه. وإن جعل هذه من مفعولاته، فمعلوم أن معرفة الوعد والوعيد والقصص المطلوب فيها الإيمان باليوم الآخر وجزاء الأعمال، /كما أن المطلوب بالأمر والنهي طاعته، فإنه لابد من الإيمان باللّه واليوم الآخر، ومن العمل الصالح لكل أمة كما قال تعالى: الوجه الرابع: أن يقال: ما ذكره من نفي المثل عنه ومن نفي الولادة مذكور في غير هذه السورة، فلم يختص بهذا المعنى. الوجه الخامس: أن يقال: هب أنها تضمنت التنزيه ـ كما ذكره اللّه ـ فمعرفة اللّه ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع ومقصوده تكميل الإثبات ـ كما أشرنا إليه ـ من أن كل تنزيه مدح به الرب ففيه إثبات؛ ولهذا كان قول: [سبحان اللّه] متضمنا تنزيه الرب وتعظيمه، ففيها تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيها تعظيمه ـ سبحانه وتعالى ـ كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع. وأما القول الثالث وهو المراد به أن من عمل بما تضمنته، كان كمن قرأ ثلث القرآن ولميعمل بما تضمنته، فهذا أيضًا ضعيف، وما نفاه من المعادلة فهو مبني على قول من اعتبر في مقدار الأجر كثرة الحروف وهو قول باطل ـ كما قد بين في موضعه ـ وذلك أن العمل بها إن أراد/ به العمل الواجب من التصديق بمضمونها وتوحيد اللّه، فهذا أجره أعظم من أجر من قرأ القرآن جملة ولميعمل بذلك، فإنه إن خلا عن الإيمان بمضمون القرآن، فهو منافق، وإن خلا عما يجب عليه من العمل، فهو فاسق. ومعلوم أن هذا لو قرأ القرآن عشر مرات، لميكن أجره مثل أجر المؤمن المتقي. وأيضًا، فإن هذا الأجر على الإيمان بمضمونها سواء قرأها أو لم يقرأها، والأجر المذكور في الحديث هو لمن قرأها، فلابد أن يكون قد قرأها مع الإيمان بما تضمنته. وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل قراءتها تعدل ثلث القرآن، وقرأها على أصحابه، وأخبرهم أنه قرأ عليهم ثلث القرآن، فكانت قراءته لها تعدل قراءته هو للثلث، وكذلك الرجل الذي جعل يرددها، وكذلك إخباره لهم بأنها تعدل ثلث القرآن، وإنمايراد به ثلثه إذا قرؤوه هم، لميرد به الثلث إذا قرأها منافق لايؤمن بمعنى وقد ذكر أبو حامد الغزالي وجها آخر غير هذه الثلاثة، فقال في كتابه [جواهر القرآن ودرره]: أما قوله: (قل هو اللّه أحد/تعدل ثلث القرآن) ما أراك تفهم وجه ذلك، فتارة تقول: ذكر هـذا للترغيب في التلاوة وليس المعنى به التقدير ـ وحاشا منصب النبوة عن ذلك ـ وتارة تقول: هذا بعيد عن الفهم والتأويل، فإن آيات القرآن تزيد على ستة آلاف آية، فهذا القدر كيف يكون ثلثها؟ وهذا لقلة معرفتك بحقائق القرآن ونظرك إلى ظاهر ألفاظه، فتظن أنها تعظم وتكثر بطول الألفاظ وتقصر بقصرها، وذلك كظن من يؤثر الدراهم الكثيرة على الجوهرة الواحدة؛ نظرًا إلى كثرتها. فاعلم أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن قطعًا، وترجع إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في مهمات القرآن، وهي: معرفة اللّه، ومعرفة الآخرة، ومعرفة الصراط المستقيم. فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة، والباقي توابع. وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث، وهي: معرفة اللّه، وتقديسه، وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع، وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفء، والوصف بالصمديشعر بأنه السيد الذي لايقصد في الوجود للحوائج سواه. نعم ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم؛ فلذلك تعدل ثلث القرآن، أي: ثلث الأصول من القرآن كما قال: (الحج عرفة) أي: هو الأصل والباقي تبع. قلت: آيات القرآن نوعان: علمية وعملية، وفي الآيات مايجمع الأمرين، وأبو حامد جمع العلميات المتعلقة بذات اللّه وصفاته وأفعاله دون مايتعلق/ باليوم الآخر والقصص، وسماها [جواهر القرآن] وجمع العمليات وسماها [درر القرآن]. وجعل الشطر الأول من [الفاتحة] من الجواهر، والثاني من الدرر، والآيات التي تجمع المعنيين يذكرها في أغلب النوعين عليها. ومجموع ما ذكره من القسمين ربع آيات القرآن نحو ألف وخمسمائة آية، وجعل معاني القرآن ستة أصناف: ثلاثة أصول، وثلاثة توابع. فذكر أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، وقال: سر القرآن ولبابه الأصفي ومقصده الأقصى دعوة العباد إلى الجبار الأعلى رب الآخرة والأولى، وخالق السموات العلى والأرضين السفلى. فالثلاثة المهمة: تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه، وتعريف الحال عند الأصول إليه. وأما الثلاثة المعنية: فأحدها: أحوال المجيبين للدعوة، ولطائف صنع اللّه فيهم، وسره ومقصوده التشويق والترغيب، وتعريف أحوال الناكبين والناكلين عن الإجابة، وكيفية قمع اللّه لهم وتنكيله بهم، وسره ومقصوده الاعتبار والترهيب. وثانيها: حكاية أقوال الجاحدين، وكشف فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمحاجة على الحق، ومقصوده وسره في جنبة الباطل الإفصاح والتحذير والتنفير، وفي جنبة الحق الإيضاح والتثبيت والتقرير. وثالثها: تعريف عمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الزاد والراحلة والأهبة للاستعداد. قلت: ما ذكره من أن أصول الإيمان ثلاثة، فهو حق كما ذكره، /ولابد من الثلاثة في كل ملة ودين، كما قال اللّه تعالى: وأما ما فيه من الأخبار بأحوال المؤمنين والكفار في الدنيا ـ وهو الذي أراده أبو حامد بذكر أحوال المستجيبين والناكبين ـ فهذا من/تمام الأدلة والآيات، فإن هذا أمر شوهد في الدنيا ورؤيت آثاره وتواترت أخباره، ليس هو مما بعد الموت الذي هو غيب عن العباد؛ ولهذا يذكر سبحانه هذا في معرض الاحتجاج والاستدلال، مع مافي ذلك من الموعظة، كقوله: /وقوله تعالى لما ذكر قصة قوم لوط: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسمينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ} /وكذلك في موضع آخر لما قال: /وأما الإرادة التي يقال فيها: إنها تخص أحد المثلين عن الآخر بلا سبب، فتلك هليوصف اللّه بها؟ فيه نزاع. فإن قيل: إنه لايوصف بها فلا كلام، وإن قيل: إنه يوصف بها، فمعلوم أن تخصيص الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بهذا، وتخصيص أعدائهم بهذا لميصدر عن تخصيص بلا مخصص، بل يعلم أنه قصد تخصيص هؤلاء بالإكرام وهؤلاء بالعقاب، وإن إيمان هؤلاء سبب تخصيصهم بهذا، وكفر هؤلاء سبب تخصيصهم بهذا. ولبسط هذه الأمور موضع آخر. لكن المقصود هنا أن هذه الثلاثة داخلة في الثلاثة الأول، ولكن أبو حامد يجعلُ الحِجَاجَ صنعة الكلام، ويجعل عمارة الطريق علم الفقه، ويجعل أخبار الأنبياء علم القصص. ويقول: إن الكلام والجدل ليس فيه بيان حق بدليل، بل إنما فيه دفع البدع ببيان تناقضها، ويجعل أهله من جنس خفراء الحجيج، ويجعل علم الفقه ليس غايته إلا مصلحة الدنيا، وهذا مما نازعه فيه أكثر الناس وتكلموا فيه بكلام ليس هذا موضعه، كما تكلموا على ما ذكره في هذا الكتاب [جواهر القرآن] وغيره من كتبه من معاني الفلسفة وجعل ذلك هو باطن القرآن، وكلام علماء المسلمين على رد هذا أكثر من كلامهم على رد ذلك؛ فإن هذا فيه ممايناقض مقصود الرسول أمور عظيمة، كما تكلموا على ما ذكره في النبوة بما يشبه كلام الفلاسفة فيها. /والمقصود أن هذا الذي ذكره في وأبو حامد إنما ذكر هذا؛ لأنه يقول: إنما يعرف معاني ذلك بطريق التصفية فقط، لا بطريق الخبر النبوي، ولا بطريق النظر الاستدلالي، /فلا يعرف ذلك بالسمع ولا بالعقل. وهذا مما أنكره عليه الناس وصنفوا كتبًا في رد ذلك ـ كما فعل جماعات من العلماء ـ ولكن عذر أبي حامد أنه لميجد فيما علمه من طريق الفلاسفة وأهل الكلام مايبين الحق في ذلك، ولم يعلم طرقًا عقلية غير ذلك، فنفي أن يعلم بطريق النظر فيه. وأما الطرق الخبرية النبوية، فلميكن له خبرة بما صح من ألفاظ الرسول، وبطريق دلالة ألفاظه على مقاصده، وظن ـ بما شارك به بعض أهل الكلام والفلسفة ـ أن الرسول لميبين مراده بألفاظه، فتركب من هذا وهذا سد باب الطريق العقلي والسمعي، وظن أن المطلوب يحصل له بطريق التصفية والعمل، فسلك ذلك، فلم يحصل له المقصود أيضًا، فرجع في آخر عمره إلى قراءة البخاري ومسلم. وقد ذكر القاضي عياض أقوالاً في كون قال القاضي عياض: قال بعضهم: قال اللّه تعالى: قلت: مضمون هذا القول، أن معاني القرآن ثلاثة أصناف: الإلهيات، والنبوات، والشرائع. وأن هذه السورة منها الإلهيات، وجعل صاحب هذا القول الوعد والوعيد والقصص من قسم/ النبوة؛ لأن ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أو ممايدل على نبوته. وهذا القول ضعيف أيضًا؛ فإنه يقال: والأمر والنهي أيضًا مما جاء به النبي، كما جاء بالوعد والوعيد. ويقال أيضًا: القصص تدل على الأمر والنهي كما تدل على النبوة، فإنها تدل على إكرامه لمن أطاعه وعقوبته لمن عصاه، وهذا تقرير للأمر والنهي كما تقدم. وأيضًا، فإن مقصود النبوة هو الإخبار بما أمر اللّه به وبما أخبر به، وما دل على إثبات النبوة من القصصيدل على إثبات ما جاء به النبي، وما دل على إثبات ما جاء به النبي يدل على الأمر والنهي الذي جاء به النبي، فهما متلازمان. ثم الإلهيات ـ أيضًا ـ هي مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فبين الدلائل العقلية على ما يمكن أن يعرف بالعقل، وأخبر عن الغيب المطلق الذي تعجز العقول عن معرفته، فلا معنى لجعل القصص داخلة في النبوة دون الإلهيات، فإنه إن عني أن القصص تدل على نبوته، فهي تدل من جهة إخباره بها كإخباره بغيرها من الغيب، وفيما أخبر به من الإلهيات والأمور المستقبلات ما هو كالقصص في ذلك وأبلغ. وإن عني أن تعذيب المكذبين يدل على النبوة، فهي تدل على جنس النبوة، وعلى/نبوة من عذب قومه، لا تدل على نبوة المتأخر، إلا أن يكون ما أخبر به من جنس ما أخبر به الأول. وهذه الأمور كلها موجودة في الإلهيات وزيادة، فإنه قد أخبر فيها بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله، قد ذكر اللّه ذلك في غير موضع كقوله: وقـد أخبر اللّه عـن الأنبياء الذين قص أخبارهم ـ كنوح وهود وصالح وشعيب ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ أن كلا منهم يقول لقومه: وأيضًا، فالإلهيات التي تعلم منها قدرة الرب وإرادته وحكمته وأفعاله، منها يعلم النبي من المتنبئ، ومنهايعلم صدق النبي، فهي أدل على صدق النبي من مجرد القصص، وما في القصص من الدلالة على صدقه إنمايدل مع الإلهيات، وإلا فلو تجرد لميدل على شيء، فالنبوة مرتبطة بالإلهيات أعظم من ارتباطها بغيرها، والأنبياء إنما بعثوا بالدعوة إلى اللّه/ وحده، وقد يذكرون المعاد مجملًا ومفصلًا، والقصص قديذكر بعضهم بعضها مجملًا. وأما الإلهيات فهي الأصل، ولابد من تفصيل الأمر بعبادة اللّه وحده دون ما سواه، فلابد لكل نبي من الأصول الثلاثة: الإيمان باللّه، واليوم الآخر، والعمل الصالح. والأصول الكلية التي يشترك فيها الأنبياء يذكرها اللّه في السور المكية ـ مثل الأنعام والأعراف وذوات [الر] و [طسم] و [حم] ـ وأكثر المفصل، ونحو ذلك. والمدنيات تتضمن خطاب من آمن بجنس الرسل من أهل الكتاب من المؤمنين بالشرائع التي بعث بها خاتم الرسل. وأما قول من قال: إن هذا في شخص بعينه، ففي غاية الفساد لفظًا ومعنى، ثم إن اللّه إنما يخص الشيء المعين بحكم يخصه لمعنى يختص به كما قال لأبي بُرْدَة بن نِيارٍـ وكان قد ذبح في العيد قبل الصلاة ـ قبل أن يشرع لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذبح يكون بعد الصلاة، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نذبح، فمن ذبح قبل الصلاة فليعد، فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله) ذكر له أبو بردة أنه ذبح قبل الصلاة، ولم يكن يعرف أن ذلك لايجوز، وذكر له أن عنده عناقًا خيرًا من جذعة فقال: (تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك)، فخصه بهذا الحكم؛ لأنه كان معذورًا في ذبحه قبل الصلاة، إذ فعل ذلك قبل شرع الحكم، /فلميكن ذلك الذبح منهيًا عنه بعد، مع أنه لميكن عنده إلا هذا السن. وأما أمره لامرأة أبي حذيفة بن عتبة أن ترضع سالمًا مولاه خمس رضعات ليصير لها محرمًا، فهذا مما تنازع فيه السلف: هل هو مختص، أو مشترك، وإذا قيل: هذا لمن يحتاج إلى ذلك ـ كما احتاجت هي إليه ـ كان في ذلك جمع بين الأدلة. وبالجملة، فالشارع حكيم لا يفرق بين متماثلين إلا لاختصاص أحدهما بما يوجب الاختصاص، ولايسوي بين مختلفين غير متساويين، بل قد أنكر ـ سبحانه ـ على من نسبه إلى ذلك وقبح منيحكم بذلك، فقال تعالى: وقد تنازع الناس في هذا الأصل، وهو أنه هل يخص بالأمر/والنهي مايخصه لا لسبب ولا لحكمة قط، بل مجرد تخصيص أحد المتماثلين على الآخر؟ فقال بذلك جهم بن صفوان ومن وافقه من الجبرية، ووافقهم كثير من المتكلمين المثبتين للقدر. وأما السلف وأئمة الفقه والحديث والتصوف وأكثر طوائف الكلام المثبتين للقدر ـ كالكرَّامية وغيرهم ونفاته كالمعتزلة وغيرهم ـ فلا يقولون بهذا الأصل، بل يقولون: هو ـ سبحانه ـ يخص مايخص من خلقه وأمره لأسباب ولحكمة له في التخصيص، كما بسط الكلام على هذا الأصل في مواضع. وكذلك قول من قال: يضعف لقارئها مقدار ما يعطاه قارئ ثلث القرآن بلا تضعيف، قول لايدل عليه الحديث، ولا في العقل مايدل عليه، وليس فيه مناسبة ولا حكمة، فإن النص أخبر أن قراءتها تعدل ثلث القرآن، وأن من قرأها فكأنما قرأ ثلث القرآن، فإن كان في هذا تضعيف، ففي هذا تضعيف، وإن لميكن في هذا تضعيف لميكن في الآخر، فتخصيص أحدهما بالتضعيف تحكم. ثم جعل التضعيف بقدر ثلث القرآن إنما هو لما اختصت به السورة من الفضل، وحينئذ ففضلها هو سبب هذا التقدير من غير حاجة إلى نقص ثواب سائر القرآن. وأيضًا، فهذا تحكم محض لا دليل عليه ولا سبب يقتضيه ولا حكمة فيه. والناس كثيرًا ما يغلطون من جهة نقص علمهم وإيمانهم بكلام اللّه ورسوله وقدر ذلك، وما اشتمل عليه /ذلك من العلم الذي يفوق علم الأولين والآخرين. ومن علم أن الرسول أعلم الخلق بالحق وأفصح الخلق في البيان وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه كمال العلم بالحق وكمال القدرة على بيانه وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ مايكون، وأتم مايكون، وأعظم مايكون بيانًا لما بينه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك، فمن وقر هذا في قلبه، لميقدر على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرت وجد من أرادها بذلك القول من أبعد الناس عما يجب اتصاف الرسول به، وعلم أن من سلك هذا المسلك، فإنما هو لنقص ما أوتيه من العلم والإيمان، وقد قال تعالى: وإذ قـد تبـين ضعف هـذه الأقوال ـ غير القـول الأول الذي نصرنـاه وهو قول ابن سُرَيج وغيره كالمهلب والأصيلي وغيرهما ـ فنقول: قد علم أن تفاضل القرآن وغيره من كلام اللّه ليس باعتبار نسبته إلى المتكلم؛ فإنه ـ سبحانه ـ واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه. والذي قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه فَضَّل من السور سورة الفاتحة وقال: (إنه لم ينزل في/التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها). والأحكام الشرعية تدل على ذلك، وقد بسط الكلام على معانيها في غير هذا الموضع. وفَضَّل من الآيات آية الكرسي، وقال في الحديث الصحيح لأبي بن كعب: (أتدري أي آية في كتاب اللّه معك أعظم؟ ) قال: وسنـبين ـ إن شاء اللّه ـ أنه إذا كانت والثواب أجناس مختلفة، كما أن الأموال أجناس مختلفة من مطعوم ومشروب وملبوس ومسكون ونقد وغير ذلك. وإذا ملك الرجل من أحد أجناس المال مايعدل ألف دينار ـ مثلا ـ لميلزم من ذلك أن يستغني عن سائر أجناس المال، بل إذا كان عنده مال وهو طعام، فهو محتاج إلى لباس ومسكن وغير ذلك. وكذلك إن كان من جنس غير النقد، فهو محتاج إلى غيره، وإن لم يكن معه إلا النقد، فهو محتاج إلى جميع الأنواع التي يحتاج إلى أنواعها ومنافعها. والفاتحة فيها من المنافع ثناء ودعاء ممايحتاج الناس إليه ما لا تقوم وهذا كما لو قدر أن الرجل تصدق بصدقات عظيمة، وجاهد جهادًا عظيمًا، يكون أفضل من قراءة القرآن مرات، وهو لم يصل ذلك اليوم الصلوات الخمس لم يقم ثواب هذه الأعمال مقام هذه، كما لو كان عند الرجل من الذهب والفضة والرقيق والحيوان والعقار أموال عظيمة، وليس عنده ما يتغدى به ويتعشى من الطعام، فإنه يكون جائعًا متألمًا فاسد الحال، ولايقوم مقام الطعام الذي يحتاج إليه تلك الأموال العظيمة؛ ولهذا قال الشيخ أبو مدين ـ رحمه اللّه: أشرف العلوم علم التوحيد، وأنفع العلم أحكام العبيد. فليس الأفضل الأشرف هو الذي ينفع في وقت، بل الأنفع في كل وقت مايحتاج إليه العبد في ذلك الوقت، وهو فعل ما أمر اللّه به وترك ما نهي اللّه عنه؛ ولهذا يقال: المفضول في مكانه وزمانه أفضل من الفاضل؛ إذ دل الشرع على أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من /الدعاء، فهذا أمر مطلق. وقد تحرم الصلاة في أوقات، فتكون القراءة أفضل منها في ذلك الوقت. والتسبيح في الركوع والسجود هو المأمور به، والقراءة منهي عنها، ونظائر هذا كثيرة. فهكذا يعلم الأمر في فضل وبين أن الحديث يناقض مذهبه من وجوه، كما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول اللّه: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، /وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه). وقد بين في هذا الحديث أن المتقرب ليس هو المتقرَّب إليه، بل هو غيره، وأنه ما تقرب إليه عبده بمثل أداء المفروض، وأنه لايزال بعد ذلك يتقرب بالنوافل حتى يصير محبوبًا للّه، فيسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به، ثم قال: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). ففرق بين السائل والمسؤول، والمستعيذ والمستعاذ به، وجعل العبد سائلًا لربه مستعيذًا به. وهذا حديث شريف جامع لمقاصد عظيمة ليس هذا موضعها، بل المقصود هنا الكلام على وقـد بينا أن أحسـن الوجـوه أن معاني القـرآن ثلاثـة أنواع: توحيد، وقصص، وأحكام. وهـذه السـورة ـ صفـة الرحمن ـ فيها التـوحيـد وحـده؛ وذلك لأن القـرآن كـلام اللّه. والكـلام نوعـان: إمـا إنشاء، وإمـا إخبار، والإخبار إمـا خـبر عن الخالق، وإمـا خبر عـن المخلـوق. فالإنشاء هـو الأحكام كالأمـر والنهي. والخـبر عـن المخلـوق هـو القصص. والخـبر عـن الخـالق هـو ذكر أسمائـه وصفاتـه. وليس في القـرآن سـورة هي وصـف الرحمـن محضًا إلا هـذه السـورة. وفي الصحيـحـين عـن عائشـة ـ رضي اللّه تعالى عنها: أن رسـول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث رجـلًا على سـريـة، /فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ وقال البخاري في باب [الجمع بين السورتين في ركعة]: وقال عبيد الله، عن ثابت، عن أنس: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم بها في الصلاة مما يقرأ به، افتتح بـ /والذين أشكل عليهم هذا القول لهم مأخذان: أحدهما: منع تفاضل كلام الله بعضه على بعض، وقد تبين ضعفه. الثاني: اعتقادهم أن الأجر يتبع كثرة الحروف، فما كثرت حروفه من الكلام يكون أجره أعظم. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). قال الترمذي: حديث صحيح. قالوا: ومعلوم أن ثلث القرآن حروفه أكثر بكثير، فتكون حسناته أكثر. فيقال لهم: هذا حق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحسنات فيها كبار وصغار، والنبي صلى الله عليه وسلم مقصوده أن الله يعطي العبد بكل حسنة عشر أمثالها، كما قال تعالى: ولو كان لرجل أموال من أصناف متنوعة، ولآخر ذهب بقدر ذلك، لكان مال هذا يعدل مال هذا وإن لم يكن من جنسه، ولهذا قد يكون عند الرجل من الذهب وغيره من الأموال ما يعدل شيئا عظيمًا، وإذا احتاج إلى دواء أو مركب أو مسكن أو نحو ذلك ولم يكن قادرًا على اشترائه، لم تنفعه تلك الأموال العظيمة. فالقرآن يحتاج الناس إلى ما فيه من الأمر والنهي والقصص، وإن كان التوحيد أعظم من ذلك. وإذا احتاج الإنسان إلى معرفة ما أمر به وما نهى عنه من الأفعال، أو/ احتاج إلى ما يؤمر به ويعتبر به من القصص والوعد والوعيد لم يسد غيره مسده، فلا يسد التوحيد مسد هذا، ولا تسد القصص مسد الأمر والنهي، ولا الأمر والنهي مسد القصص، بل كل ما أنزل الله ينتفع به الناس ويحتاجون إليه. فإذا قرأ الإنسان: ومما ينبغي أن يعلم: أن فضل القراءة والذكر والدعاء والصلاة وغير ذلك قد يختلف باختلاف حال الرجل، فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور قلب أفضل من الصلاة بدون ذلك. وفي الأثر: (إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض). وكان بعض الشيوخ يرقي بــ وإذا عرف ذلك، فقد يكون تسبيح بعض الناس أفضل من قراءة غيره، ويكون قراءة بعض السور من بعض الناس أفضل من قراءة غيره لــ فإذا قيل: إن
|